نص كلمة السيد الحكيم في احتفالية اليوم العالمي للديمقراطية 2025 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين.
أصحاب الدولة والسيادة والمعالي والسعادة..
السادة والسيدات .. ضيوف العراق الكرام..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
نلتقي اليوم في مناسبة بالغة الأهمية، حيث اليوم العالمي للديمقراطية، متزامناً مع إطلاق "المرصد العراقي لمراقبة الديمقراطية".
إنّ لحظة التحول الديمقراطي في العراق لم تكن ترفا سياسيا ولا وصفة مستوردة ولاصدفة عرضية .. بل هي خيار وطني عراقي أصيل.. واستجابة لتضحيات جسام قدمها أبناء شعبنا الصبور عبر عقود طويلة من الكفاح والنضال ضد الاستبداد والظلم والإقصاء..
فقد أثبت العراقيون رغم كل العواصف الأمنية والسياسية والاقتصادية التي مرّوا بها.. أنّهم متمسكون بهذا الخيار السياسي.. وأنّهم ينظرون إلى الديمقراطية بوصفها الطريق السليم لبناء دولة عادلة تصون الحقوق.. وتؤدي الواجبات.. وتفتح أمام المواطن آفاق المشاركة الكريمة في صناعة القرار.
وقد عرفنا عبر أدبيات الفكر السياسي الحديث .. أنّ الحياة الديمقراطية ليست مجرّد بنية مؤسساتية.. بل هي قبل ذلك عقد اجتماعي يبرمه الناس مع بعضهم..ثم مع الدولة على أساس الحرية والمساواة والعدالة.. ومن خلاله يتم تحديد الواجبات والحقوق بين الحكومة والمواطن..
وما يمتلكه العراق مهد الحضارات من العمق التاريخي والثقافي ، يجعله قادرًا على تقديم تجربته الخاصة في ترجمة هذا العقد الاجتماعي بما ينسجم مع ثوابته الدينية وقيمه الوطنية والإنسانية..
أيها الحضور الكرام..
إنّ التجربة الديمقراطية في العراق وإن كانت فتية ، إلا إنها تُختبر يوميا أمام تحديات جمة ، من أبرزها الآتي:
- التوفيقبين التعدديةالسياسية والوحدةالوطنية بنحو تكاملي متوازن.
- معالجةإشكاليات التشريعوالتمثيل فيظل مجتمعمتنوع ومتعدد ..
- مقاومة محاولات إفراغ الديمقراطية من محتواها عبر الفساد أو المحاصصة لتحويلها إلى مجرد شكل بلا مضمون..
- ضعفأداء بعضمؤسسات الدولةوسوء الإدارةمع غيابالشفافية فيالمتابعة والرقابة..
- التدخلات الدولية والإقليمية في الشأن المحلي..
وعلى الرغم من ذلك فإننا نمتلك مقومات فريدة ومميزة من أبرزها:
- شباب يتطلّعونإلى المشاركةوصناعة المستقبل..
- ونخب فكرية وأكاديمية ترفد التجربة بالرؤى والمعالجات..
- وتاريخ عريق من الحراك الاجتماعي والسياسي يجعل من الديمقراطية مسارًا طبيعيًا لتطور الأداء الوطني..
مع إرادة سياسية ومجتمعية في تقديم تجربة رائدة للعراق ومميزة له عن غيره من دول المنطقة..
وهنا أود القول أنني لست مع السوداوية الكاملة التي يطرحها البعض ، ولا مع الإيجابية الحالمة، بل مع الواقعية التي ترى التحديات وتقر بالمنجزات في آن واحد، وتتعامل معها بمنطق متوازن ومسؤول. وهذه التحديات والإنجازات معًا يجب أن تحفزنا على مزيد من الإصلاح والمراجعة وتصحيح المسارات، مع الحفاظ على ما تحقق وتطويره نحو الأفضل.
لقد تعلّمنا من تجارب الأمم أنّ الديمقراطية ليست نظامًا يُستورد.. ولا مسارا يُفرض بالقوة.. إنما هي عملية تراكمية تتطور بالممارسة والتكرار .. وتُصحح بالأخطاء.. وتترسخ بالصبر والإصرار.. ومن هنا فإنّ مسؤوليتنا جميعا ، قوى سياسية.. ومجتمعاً مدنياً .. ومؤسسات إعلامية.. أكاديميين ونخبا .. أن نرعى هذه التجربة ونحميها ونطورها.. وأن نمنع تحويلها إلى مجرد واجهة شكلية لا تعبّر عن الإرادة الشعبية الحقيقية.
أيها الأحبة الكرام..
إنّ الديمقراطية لكي تستمر وتترسخ فإنها تحتاج إلى مرتكزات ثلاثة:
أولا/ الشرعية السياسية: وهذه الشرعية لا تُبنى إلا عبر انتخابات نزيهة تعكس إرادة الشعب الحقيقية..
ثانيا/ المواطنة الفاعلة: التي تُعطي لكل فرد حق المشاركة في القرار.. وتجعل الولاء للوطن فوق كل الولاءات الفرعية..
ثالثا/ المؤسسات الرصينة: التي تعمل بفاعلية وشفافية.. وتضمن الفصل بين السلطات وتحقق العدالة في توزيع الفرص والخدمات..
إذ من دون هذه المرتكزات تبقى الديمقراطية عرضة للتشويه أو الانحراف.. او الاستغلال السلبي لمآرب وأجندات خاصة..
إنّ مسؤوليتنا كقوى سياسية ومجتمعية هي أن نعزز تلك المرتكزات.. وأن نجعل من الديمقراطية منهجًا تربويًا وثقافيًا قبل أن تكون آلية سياسية.. فنحن بحاجة إلى إعلام مسؤول.. ومناهج تعليمية تعزز قيم الحوار والتعددية.. وبرامج اجتماعية وشبابية ترسّخ ثقافة المشاركة والحوار.
الديمقراطية ليست محطة نصل إليها ثم نتوقف عندها ،، بل هي مسيرة مستمرة تتطور بتطور وعي الناس وتجاربهم.. وطالما أخبرتنا التجارب الإنسانية أنّ الديمقراطية قد تمر بأزمات وانكسارات.. لكنها في النهاية تُثبت قدرتها على الصمود والتجدد لأنها ببساطة تستند إلى أعمق غريزة إنسانية تتمثل في ثنائية (الحرية والكرامة).
كما أن الديمقراطية لا تترسخ بالشعارات فحسب .. وإنما تُبنى بالثقة بين الحاكم والمحكوم.. وبالعدالة في توزيع الفرص.. وبحماية حقوق الإنسان وكرامته.. وبإيجاد منظومة تشريعية وقضائية نزيهة وفاعلة.
كما أنها لا تكتمل إلا بمشاركة حقيقية من الشباب والمرأة والنخب المثقفة.. فهم الضمانة لاستمرار هذا النهج ومنع ارتداده إلى الوراء..
والسؤال الجوهري:هل نستطيع أن نتخيل نظاما سياسيا ديمقراطيا بلا انتخابات؟؟
إنّ الديمقراطية في جوهرها ليست مجرد صناديق انتخاب أو تداول للسلطة.. بل هي قبل ذلك ثقافة ووعي ومسؤولية.. ثقافة تحترم الرأي المختلف وتقدّر التعددية.. ووعيّ يدرك أنّ الشراكة الوطنية هي الضامن الحقيقي للاستقرار.. ومسؤولية تحملها القوى السياسية والنخب الاجتماعية في بناء مؤسسات قوية وفاعلة.
إنّ خيارنا في العراق واضح وراسخ .. فلا بديل عن الديمقراطية.. قد نختلف في التفاصيل وقد نواجه العراقيل والتحديات.. لكننا جميعًا متفقون على أنّ هذا الوطن لا يُبنى بالاستبداد ، ولا يُصان بالإقصاء.. بل يُبنى بالحوار والشراكة.. ويُصان بالعدالة وسيادة القانون.
وعلى الرغم من التحديات والمخاطر ، إلا أننا نؤمن وبثقة تامة .. أنّ هذه التحديات قابلة للتجاوز حينما تتوحد الإرادة الوطنية.. وحينما تتقدم المصلحة العليا للعراق على سواها من مصالح فئوية أو شخصية أو جانبية ضيقة.
إننا بحاجة إلى إعادة الثقة بين المواطن ومؤسساته.. وتقديم نموذج في الحكم العادل.. لنبرهن للعالم أنّ العراق بحضارته وعمق تجربته قادر على أن يكون منارة للديمقراطية في المنطقة.. لا ميدانًا للفوضى والتجاذبات..
أيها لاعزاء..
إن توحيد مواقفنا السياسية.. وتحديد أولوياتنا الوطنية.. وترسيخ ثقافة الاعتدال والحوار والمشاركة.. هي السبيل أمام مواجهة التحديات ومعالجة الإشكاليات.. ومن دون هذه الثلاثية في الرؤية والإدارة لا يمكننا تحقيق المنجز التاريخي لأجيالنا وشعبنا وأهلنا..
إنّ الديمقراطية التي نؤمن بها ليست نظرية سياسية فحسب.. بل هي رغيف خبز كريم على مائدة كل أسرة .. وهي فرصة عمل كريمة لشبابنا.. وهي مقعد دراسي آمن لأطفالنا.. ولا معنى لأي نظام سياسي إن لم يحفظ كرامة المواطن ويرفع عن كاهله ثقل الحاجة والحرمان..
إنّ شباب العراق لا ينتظرون منّا وعوداً وحسب .. بل ينتظرون فرصا حقيقية ليكونوا صُنّاع المستقبل. إنّهم الطاقة التي إذا أحسنا استثمارها جعلنا من ديمقراطيتنا تجربة رائدة.. وإن أهملناها فلن يكون لأي بناء سياسي أساس راسخ..
وإذ نحتفل اليوم بالديمقراطية، فإننا نستذكر تضحيات قادتنا الشهداء، الذين نادوا بالشراكة الوطنية وكسر المعادلة الظالمة التي حكمت العراق لعقود، وتعلمنا أن الديمقراطية الحقيقية تقوم على التضحيات والصبر والمثابرة.
لقد جسّد شهداؤنا معنى الوحدة الوطنية حين تجاوزوا حدود الانتماء الضيق، وحملوا هموم العراق بأسره، ليبرهنوا أن صوت الدم أقوى من كل محاولات التفرقة، وأن الديمقراطية لا يمكن أن تُبنى إلا على أرضية التضامن والتكافل بين أبناء الوطن الواحد. هؤلاء العظماء لم يضحّوا لأجل طائفة أو حزب أو قومية، بل لأجل عراقٍ واحدٍ لجميع مكوناته. لتبقى دماؤهم الزكية أمانة في أعناقنا، وبوصلة توجهنا نحو الوحدة والعدل.
إن إطلاق المرصد العراقي لمراقبة الديمقراطية يمثل خطوة نوعية في مسار تعزيز الرقابة الشعبية على الأداء السياسي. فالمجتمع المدني شريك أساسي في بناء الدولة، فهو يمثّل صوت المواطنين الحرّ ، وضميرهم الحي، ويعكس حيوية المجتمع في مراقبة مؤسساته وتقويم أدائها. إن المجتمع المدني يوفّر القاعدة الشعبية لأي عملية إصلاحية حقيقية، ويحوّل الديمقراطية من مجرد نصوص وقوانين إلى ممارسة يومية ووعي جمعي. وهو الحاضنة التي تنشأ فيها ثقافة الحوار، وقبول الآخر، والعمل التطوعي، وتكافؤ الفرص، ليكون شريكًا فاعلاً في صياغة السياسات العامة، والدفاع عن الحقوق، وصون الحريات. وهو الضامن لترسيخ ثقافة الإصلاح ، لا الاكتفاء بالنقد.
وبهذه المناسبة ندعو إلى التعاون الوثيق بين السلطات ومؤسسات المجتمع المدني والمرصد الديمقراطي، بما يحقق الشفافية ويضمن حماية صوت المواطن وإرادته الحرة.
بوحدتنا ووعينا نستطيع أن نجعل العراق وطنًا يُنصف أبناءه جميعا بلا استثناء.. عراقًا يحكمه العدل وتُصان فيه الحقوق.. عراقًا لا يُقصي أحدا ولا يستبد فيه أحد برأيه .. هذه هي رسالتنا وهذه هي أمانتنا أمام اللّٰه وأمام شعبنا ..
نسأل اللّٰه أن يوفقنا لحمل هذه الأمانة.. وأن يجعل العراق نموذجا حيا لديمقراطية أصيلة.. تُعلي من شأن الإنسان وتفتح له آفاق الكرامة والحرية.. وتحفظ للعراق تعدديته وتنوعه لجميع مكونات شعبه..
إنه نعم المولى ونعم النصير ..
والسلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته..